“مُؤمنة حلاّق” دعوني اروي لكم حِكاية هذه السَيدة السعودية الفاضلة وزوجها الإنسان النبيل ناصر الدوسري, مؤمنة كانت في مراحل الحمل الأخيرة وعلى وشك ولادة ابنها الثالث إبراهيم, كانت تشعر أن هذه الولادة ستكون مُتعسرة ومختلفة عن المرات السابقة التي حملتْ وولدتْ فيها أبناءها الآخرين, فاجأتها آلامُ المخاض فهرع بها زوجها الى قسم الطوارئ في مستشفى الدمام المركزي وهناك أُجريت لها عملية توليد عاجلة بطلق صناعي استدعته حالة طِفلها الذي وُلد بمرض خطير وتشوه خلقي يهدد حياته وصحته, وُلد إبراهيم بحالة استسقاء في الدماغ وهو عبارة عن تَجمع غير طبيعي لسائل النُخاع في تجاويف الدماغ مما يُسبب ضغطاً خطيراً على أغشية الدماغ وخلاياه وتشوه كبير في حَجم الرأس والجُمجمة. لم يُتح لمؤمنة أن تحتضن طفلها الصغير او تُرضعه فقد هرعت به الممرضات لغرفة العناية المركزة للتعامل مع وضعه الصحي الخطير, كانت تذهب لغرفة الحضانة التي يرقد فيها الأطفال المرضى فقط لمشاهدته دون ان يُسمح لها بالاقتراب مِنه. في هذه الأثناء لمحت مؤمنة طفلاً آخر يرقد بجوار طفلها إبراهيم, كان يبكي بشدة ولساعات متواصلة دون أن يلتفت اليه أحد غير الممرضات اللاتي يعتنين به, سألت عنه فأخبروها أنه طفل “مجهول الهوية”!! طفل هجرته أمه وتركته وحيدا فور ولادته! رَق قلب مُؤمنة على هذا الوافد الجديد الذي لفظته الحياة دون قرار منه او اختيار, حملتهُ وضمتهُ الى صدرها وبدأت بإرضاعه. كان فعلاً إنسانياً محضاً لا يحتمل السؤال, ومنه بدأت الحكاية. خرجتْ مؤمنة من المَشفى دون طفلها, ظلت تتردد عليه يومياً لزيارته لكنها لم تكن تزوره وحده! كانت تزور الطفل الآخر الذي منحته في قلبها اسم خالد, كانت تحتضنه وترضعه سرا دون علم زوجها, وفي أحد الأيام رأي ناصر زوجته تحمل على صدرها طفلا ظنَه ولده إبراهيم, ذهب لإلقاء نظرة على الحضانة فوجد إبراهيم نائماً في سريره دون حراك, عاد لزوجته مستغربا وسألها عن هذا الطفل الذي ترضعه؟! أخبرته مؤمنة أنه طفل يتيم “مجهول الهوية” هجرته أمه لحظة ولادته! فرق قلبها لحاله فأخذته وأرضعته! كان ناصر رجلاً نبيلاً رقيق القلب, لم يغضب لما فعلته زوجته بل بارك عطفها وحُنوها ورِضاعها للطفل الجديد الذي لا تربطه به الا صلة الإنسان بالإنسان. ظل الزوجان يترددان على المشفى لزيارة إبراهيم وخالد, وبعد مرور اكثر من عشرة أيام قرر ناصر أن يُخرج إبراهيم من المشفى على مسؤوليته الخاصة. كانت مخاطرة كبيرة ويمكن ان تنتهي بموت الطفل لكنه أصر على موقفه, خرج ناصر ومؤمنة ومعهما طفلهما المريض لكنه لم يكن وحده!! قرر هذا الرجل النبيل وزوجته الفاضلة ان يأخذا خالد معهما للبيت!! عادا بطفلَين مريضين أحدهما يُعاني استسقاءاً دماغيا خطيراً قد يقضي على حياته في أي لحظة وآخر يعاني تشنجاً عصبياً لم تُعرف أسبابه وطُرق علاجه!, هنا يجب أن اتوقف انا عن الحكاية لأدعوكم لمشاهدة الحلقة التي بثتها قناة (إم بي سي) في برنامج الثامنة عن هذين الزوجين الكريمين ليرويا لكم بقية التفاصيل, فلا يمكن لكلماتي مهما اجتهدت في صياغتها أن تصف لكم عناء السنوات الأولى وعذاباتها في تربية طفلين مريضين يتطلبان عناية فائقة على مدار الساعة. سأعود أنا لموضوع التبني لأشرح لكم سبب اختيار العُنوان, عندما بدأت الاهتمام والحديث مع بعض الأصدقاء والأقارب عن موضوع التبني دائما ما كانت تُواجهني عبارة ثابتة ترددت على ألسن الجميع تقريباً كردة فعل فورية على طرح الموضوع وهي عبارة “ولكن التبني في الإسلام حرام”!! وتساءلت بدوري: كيف يمكن للإسلام او لأي دين آخر يُمثل رِسالة العدل والرَحمة أن يُحرم عملاً إنسانياً عظيماً مثل التبني؟! كيف يمكن لأي دين أن يُحرم كفالة الأيتام واحتضانهم ومنحهم ما سلبتهم إياه الحياة دون قرار منهم أو اختيار؟! وبدأتُ رِحلة البحث, وسرعان ماكتشفت ان الإسلام لم يحرم التبني مُطلقا! وإنما حرم الإدّعاء, والإدّعاء المذكور في الآية الكرية “وما جَعل أدعيائكم أبنائكم” هو مُمارسة جاهلية كان الرجل فيها يدّعي ابناً ليس من صُلبه تكاثراً وتفاخراً, وقد يكون هذا المُدعى مجهول الأب او ابناً لبغي قارَبها أكثر من رجل و قد يكون معلوم الأب لكن يتم ادعاؤه وسلبهُ من أبويه قهرا وظلماً لأسباب لامجال لحصرها هنا. اذاً ما تيقنته بقلبي كان صحيحاً, لم يُحرم الإسلام التبني أبدا وإنما حث عليه وأكده وأوجبه من خلال ذات الممارسات التي سبقت عصر الإسلام وأرساها هو وهذبها بأحكامه وتشريعاته, تحريماً لبعض الأجزاء والجوانب وتأكيداً وتوجيباً لذات المبدأ والمُمارسة. عندما كنت اقرأ الحديث النبوي الشريف الذي يقول (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) حيث كان النبي يشير بإصبعيه الكريمين في كناية صريحة عن تساوي مكانته العظيمة في الجنة ومكانة كافل اليتيم, كنت أتساءل عن سِر هذا الحديث وسِر هذه المكانة؟ ماهي طبيعة هذه الكفالة التي تُوصلك لأعلى مراقي الجنان مع أعظم الأنبياء والرسل؟ لماذا وكيف يستحق الإنسان كل هذا القدر من الحفاوة والتكريم؟! هل كفالة اليتيم تعني التّكفل بجزء من احتياجاته المادية والمعيشية؟! هل هو هذا المبلغ البسيط الذي ندفعه شهريا لوسيط يوصله لليتيم الذي لا نعرفهُ ولا يعرفنا؟ أنا لا أزايد على كرم الله وجزيل عطائه فكل شيء محكوم بنية الانسان ومقاصده لكني لا أعتقد انه بالإمكان ان تنال هذا التكريم العظيم لمجرد التكفل باحتياجات الجسد؟! اذ لا شك عندي ان المقصود بكفالة اليتيم في الإسلام هو التبني والاحتضان بمفهومهِ الواسع والشامل, هو أن تمنح اليتيم أهم ما يفتقده في الحياة, تخيل إنساناً دون أب وأم, دون إخوة وأخوات, دون أقارب وأصدقاء!! وتخيل أن تمنحه أنت كل هذا!! هل هنالك ما هو أعظم وأجمل!! بعد هذا اليقين النظري قررت الانتقال للمرحلة الثانية وهي وضع اللبنات الأساسية الأولى لمشروع حقيقي يُعنى بإحياء ثقافة ومفهوم التبني كممارسة إنسانية عظيمة جدا تم طمسها واغتيالها باسم الوهم القبيح الذي يقول ان التبني في الإسلام حرام! ومع الخُطوات الأولى نصحني أحد الأصدقاء بالتروي والتركيز على لغة المنطق والأرقام وعدم الإنصات لهمس العاطفة وتأثيرها! حسناً ماهي لغة الأرقام وماذا تقول؟ هكذا هي كما أقرأها: لو كان هناك يتيم واحد في هذه الدنيا لوجب على كل بيت من بُيوت المسلمين وعلى كل إنسان قادر ان يحتضنه ويتبناه ويتكفله, هنا تنتهي عندي لغة الأرقام لأعود وأخالف تلك النصيحة المريعة وأسكب كل عاطفتي وقلبي في هذا المشروع العظيم, وأدعوكم بكل ما أوتيت من شغف أن تكونوا جزءاً من هذا المشروع سواء بالنصيحة او بالكلمة او بأي جهد تستطيعونه. أنصتوا لهمس الرحمة والشفقة في قلوبكم واتبعوها فقلب المؤمن دليله الى الله وإلى ما يحب الله ويرضى.
التبني في الإسلام … ليس حراماً
21 Wednesday Jan 2015
Posted Uncategorized
in