التبني في الإسلام … ليس حراماً

“مُؤمنة حلاّق” دعوني اروي لكم حِكاية هذه السَيدة السعودية الفاضلة وزوجها الإنسان النبيل ناصر الدوسري, مؤمنة كانت في مراحل الحمل الأخيرة وعلى وشك ولادة ابنها الثالث إبراهيم, كانت تشعر أن هذه الولادة ستكون مُتعسرة ومختلفة عن المرات السابقة التي حملتْ وولدتْ فيها أبناءها الآخرين, فاجأتها آلامُ المخاض فهرع بها زوجها الى قسم الطوارئ في مستشفى الدمام المركزي وهناك أُجريت لها عملية توليد عاجلة بطلق صناعي استدعته حالة طِفلها الذي وُلد بمرض خطير وتشوه خلقي يهدد حياته وصحته, وُلد إبراهيم بحالة استسقاء في الدماغ وهو عبارة عن تَجمع غير طبيعي لسائل النُخاع في تجاويف الدماغ مما يُسبب ضغطاً خطيراً على أغشية الدماغ وخلاياه وتشوه كبير في حَجم الرأس والجُمجمة. لم يُتح لمؤمنة أن تحتضن طفلها الصغير او تُرضعه فقد هرعت به الممرضات لغرفة العناية المركزة للتعامل مع وضعه الصحي الخطير, كانت تذهب لغرفة الحضانة التي يرقد فيها الأطفال المرضى فقط لمشاهدته  دون ان يُسمح لها بالاقتراب مِنه. في هذه الأثناء لمحت مؤمنة طفلاً آخر يرقد بجوار طفلها إبراهيم, كان يبكي بشدة ولساعات متواصلة دون أن يلتفت اليه أحد غير الممرضات اللاتي يعتنين به, سألت عنه فأخبروها أنه طفل “مجهول الهوية”!! طفل هجرته أمه وتركته وحيدا فور ولادته! رَق قلب مُؤمنة على هذا الوافد الجديد الذي لفظته الحياة دون قرار منه او اختيار, حملتهُ وضمتهُ الى صدرها وبدأت بإرضاعه. كان فعلاً إنسانياً محضاً لا يحتمل السؤال, ومنه بدأت الحكاية. خرجتْ مؤمنة من المَشفى دون طفلها, ظلت تتردد عليه يومياً لزيارته لكنها لم تكن تزوره وحده! كانت تزور الطفل الآخر الذي منحته في قلبها اسم خالد, كانت تحتضنه وترضعه سرا دون علم زوجها, وفي أحد الأيام رأي ناصر زوجته تحمل على صدرها طفلا ظنَه ولده إبراهيم, ذهب لإلقاء نظرة على الحضانة فوجد إبراهيم نائماً في سريره دون حراك, عاد لزوجته مستغربا وسألها عن هذا الطفل الذي ترضعه؟! أخبرته مؤمنة أنه طفل يتيم “مجهول الهوية” هجرته أمه لحظة ولادته! فرق قلبها لحاله فأخذته وأرضعته! كان ناصر رجلاً نبيلاً رقيق القلب, لم يغضب لما فعلته زوجته بل بارك عطفها وحُنوها ورِضاعها للطفل الجديد الذي لا تربطه به الا صلة الإنسان بالإنسان. ظل الزوجان يترددان على المشفى لزيارة إبراهيم وخالد, وبعد مرور اكثر من عشرة أيام قرر ناصر أن يُخرج إبراهيم من المشفى على مسؤوليته الخاصة. كانت مخاطرة كبيرة ويمكن ان تنتهي بموت الطفل لكنه أصر على موقفه, خرج ناصر ومؤمنة ومعهما طفلهما المريض لكنه لم يكن وحده!! قرر هذا الرجل النبيل وزوجته الفاضلة ان يأخذا خالد معهما للبيت!! عادا بطفلَين مريضين أحدهما يُعاني استسقاءاً دماغيا خطيراً قد يقضي على حياته في أي لحظة وآخر يعاني تشنجاً عصبياً لم تُعرف أسبابه وطُرق علاجه!, هنا يجب أن اتوقف انا عن الحكاية لأدعوكم لمشاهدة الحلقة التي بثتها قناة (إم بي سي) في برنامج الثامنة عن هذين الزوجين الكريمين ليرويا لكم بقية التفاصيل, فلا يمكن لكلماتي مهما اجتهدت في صياغتها أن تصف لكم عناء السنوات الأولى وعذاباتها في تربية طفلين مريضين يتطلبان عناية فائقة على مدار الساعة. سأعود أنا لموضوع التبني لأشرح لكم سبب اختيار العُنوان, عندما بدأت الاهتمام والحديث مع بعض الأصدقاء والأقارب عن موضوع التبني دائما ما كانت تُواجهني عبارة ثابتة ترددت على ألسن الجميع تقريباً كردة فعل فورية على طرح الموضوع وهي عبارة “ولكن التبني في الإسلام حرام”!! وتساءلت بدوري: كيف يمكن للإسلام او لأي دين آخر يُمثل رِسالة العدل والرَحمة أن يُحرم عملاً إنسانياً عظيماً مثل التبني؟! كيف يمكن لأي دين أن يُحرم كفالة الأيتام واحتضانهم ومنحهم ما سلبتهم إياه الحياة دون قرار منهم أو اختيار؟! وبدأتُ رِحلة البحث, وسرعان ماكتشفت ان الإسلام لم يحرم التبني مُطلقا! وإنما حرم الإدّعاء, والإدّعاء المذكور في الآية الكرية “وما جَعل أدعيائكم أبنائكم” هو مُمارسة جاهلية كان الرجل فيها يدّعي ابناً ليس من صُلبه تكاثراً وتفاخراً, وقد يكون هذا المُدعى مجهول الأب او ابناً لبغي قارَبها أكثر من رجل و قد يكون معلوم الأب لكن يتم ادعاؤه وسلبهُ من أبويه قهرا وظلماً لأسباب لامجال لحصرها هنا. اذاً ما تيقنته بقلبي كان صحيحاً, لم يُحرم الإسلام التبني أبدا وإنما حث عليه وأكده وأوجبه من خلال ذات الممارسات التي سبقت عصر الإسلام وأرساها هو وهذبها بأحكامه وتشريعاته, تحريماً لبعض الأجزاء والجوانب وتأكيداً وتوجيباً لذات المبدأ والمُمارسة. عندما كنت اقرأ الحديث النبوي الشريف الذي يقول (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) حيث كان النبي يشير بإصبعيه الكريمين في كناية صريحة عن تساوي مكانته العظيمة في الجنة ومكانة كافل اليتيم, كنت أتساءل عن سِر هذا الحديث وسِر هذه المكانة؟ ماهي طبيعة هذه الكفالة التي تُوصلك لأعلى مراقي الجنان مع أعظم الأنبياء والرسل؟ لماذا وكيف يستحق الإنسان كل هذا القدر من الحفاوة والتكريم؟! هل كفالة اليتيم تعني التّكفل بجزء من احتياجاته المادية والمعيشية؟! هل هو هذا المبلغ البسيط الذي ندفعه شهريا لوسيط يوصله لليتيم الذي لا نعرفهُ ولا يعرفنا؟ أنا لا أزايد على كرم الله وجزيل عطائه فكل شيء محكوم بنية الانسان ومقاصده لكني لا أعتقد انه بالإمكان ان تنال هذا التكريم العظيم لمجرد التكفل باحتياجات الجسد؟! اذ لا شك عندي ان المقصود بكفالة اليتيم في الإسلام هو التبني والاحتضان بمفهومهِ الواسع والشامل, هو أن تمنح اليتيم أهم ما يفتقده في الحياة, تخيل إنساناً دون أب وأم, دون إخوة وأخوات, دون أقارب وأصدقاء!! وتخيل أن تمنحه أنت كل هذا!! هل هنالك ما هو أعظم وأجمل!! بعد هذا اليقين النظري قررت الانتقال للمرحلة الثانية وهي وضع اللبنات الأساسية الأولى لمشروع حقيقي يُعنى بإحياء ثقافة ومفهوم التبني كممارسة إنسانية عظيمة جدا تم طمسها واغتيالها باسم الوهم القبيح الذي يقول ان التبني في الإسلام حرام! ومع الخُطوات الأولى نصحني أحد الأصدقاء بالتروي والتركيز على لغة المنطق والأرقام وعدم الإنصات لهمس العاطفة وتأثيرها! حسناً ماهي لغة الأرقام وماذا تقول؟ هكذا هي كما أقرأها: لو كان هناك يتيم واحد في هذه الدنيا لوجب على كل بيت من بُيوت المسلمين وعلى كل إنسان قادر ان يحتضنه ويتبناه ويتكفله, هنا تنتهي عندي لغة الأرقام لأعود وأخالف تلك النصيحة المريعة وأسكب كل عاطفتي وقلبي في هذا المشروع العظيم, وأدعوكم بكل ما أوتيت من شغف أن تكونوا جزءاً من هذا المشروع سواء بالنصيحة او بالكلمة او بأي جهد تستطيعونه. أنصتوا لهمس الرحمة والشفقة في قلوبكم واتبعوها فقلب المؤمن دليله الى الله وإلى ما يحب الله ويرضى.

الراقصة والسياسي … عن كوثر الأربش أحدثكم

في العام 1651 وَضع الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز واحداً من أهم كُتب الفلسفة السّياسية في التّاريخ الأوروبي الحديث واختار له عنوانا من وحي الميثولوجيا الاغريقية القديمة يختصر به نظريته السياسية التي استوحاها كما يقول من الطبيعة البدائية للإنسان وحاجته الفطرية للحياة المدنية الآمنة والمُنظمة, عَنون هوبز كتابه ب “اللفياثان- الأصُول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة” واللفياثان هو كائن بحري خُرافي له رأس تنين وجسد أفعى ويمتلك أطرافا اخطبوطية تنتهي بآلاف الأصابع في كناية واضحة عن شكل الحُكم الذي يؤمن به هوبز ويدعو له حيث الدولة القادرة والمُهيمنة على كل تفاصيل الحياة واستخدمه “هوبز” ليصور السُلطة المُطلقة للحاكم أو الدولة التي يُذعن لها الناس (ضمن عقد اجتماعي جديد) بديلاً عن سُلطة الدين أو اللاهوت. لم تكن نظرية هوبز سوى بدايات التشكل الأولى للفلسفة السياسية الحديثة التي أغناها جون لوك بأفكاره لاحقا ثم أوصلها الكاتب والمفكر السياسي الشهير جان جاك روسو الى قِمة النُضج النظري والذي حملته الثورة الفرنسية لاحقا الى عالم الواقع والتطبيق بتبنيها لأبرز نظرياته السياسية التي سطرها في مسودته الأشهر “العقد الاجتماعي”.
لستُ معنيا بأوروبا فهذه مُجرد مقدمة للتوضيح, وربما سأعود اليها لاحقا لاستخدام المزيد من الأمثلة, ما يعنيني حقا هو النظام السياسي هنا في المملكة وبما اني اكتب في مُدونتي الخاصة فسأعطي نفسي الحق بالوصول مباشرة الى النتيجة التي اتبناها دون الغرق في بحر التحليل والإثبات النظري والاكتفاء باعتماد الوقائع الحياتية المعاشة كأمثلة على النتيجة التي قررت القفز إليها.
النظام السياسي في المملكة هو نظام “اللِفياثان الخرافي ذو الألف إصبع” والذي دعا له توماس هوبز قبل 360 سنة في أوروبا, نظام المَلكية المُطلقة, نظام “الفاعل” السياسي العملاق الذي يقف وحيدا ومُتسيداً ومُسيطراً على كل مفاصل الحياة في مَملكته الواسعة، “الفاعل” السياسي الذي يُسيطر على الاقتصاد ويتحكم بالإعلام ويُشكل الثقافة ويُقولب التعليم ويدير المؤسسات وينظم حركة السير ويعالج المرضى ويدفن الموتى, “الفاعل” الذي يُطعمك ويَسقيك ويُؤمن لك وظيفتك ويدفع لك راتبك ويوفر لك وسائل الترفيه المناسبة, يُعلمك الحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز. يقول لك من تكره ومن تُحب ومن تُصادق ومن تُعادي, يقول لك كيف تصلي وتصوم, كيف تتعامل مع زوجتك وكيف تُمارس الجنس معها بالطريقة الصحيحة.
هل هذا الأمر طبيعي؟! هل هكذا تجري الأمور عادة في كل مكان في العالم؟! وكعادتي في القفز مباشرة الى النتائج التي اريد أقول : قطعاً لا, في أماكن أخرى من العالم ومنها أوروبا التي انتج أحد فلاسفتها نظرية “اللفياثان” لم تَعد الحُكومة تتمتع بمركزيتها المُطلقة. لم تعد فاعلاً وحيداً عندما تحولت المجتمعات الأوروبية الحديثة الى مجتمعات مدينية تمارس فيها مؤسسات المجتمع المدني “الفاعل الاجتماعي” دوراً قد يفوق في قوته وتأثيره دور الفاعل السياسي كمُشرع وكصَانع للقرار. عدا عن دور “الفاعل” الاقتصادي في دول تبنت الرأسمالية كنظام يُفترض به الاستقلال شبه التام عن سيطرة “الفاعل” السياسي.
وبالعودة الى المملكة ونظامها “اللفياثاني” العتيد, هل يمكننا ان نتخيل ظاهرة او مشكلة لا ترتبط مباشرة بدور “الفاعل” السياسي؟! هل يمكن مثلا لرجل الاقتصاد ان يتحدث عن مشكلة الفقر او البطالة او التضخم او الفساد دون الحديث عن دور ومسؤولية “الفاعل” السياسي؟! هل يمكن للمثقف ان يقارب مشكلة الطائفية والتعصب وطغيان الرأي الواحد دون ان يلحظ أثرا لهذا العملاق السياسي المنتصب أمام عينيه؟! كيف يمكنا أن نفسر هذا العمى او هذا التغاضي المريب عند الكثير من رجال الفكر والسياسة والاقتصاد؟! وبالتركيز على نموذج المُثقف الطائفي الذي اخترتُ له السيدة كوثر الأربش كمثال فاقع على المثقف المُتعامي تماماً عن أي دور للفاعل السياسي حيث لا تلمح في كتاباتها أي أثر لهذا الكائن الضخم الذي تتحكم أصابعه في كل تفاصيل حياتك حتى تكادها تدخل في عينيك!
هُنا تبدأ الأسئلة بالغليان, كيف يتحكم عقل “اللفياثان” برُؤوسه وأذرُعه وأصابِعه؟ كيف يستطيع “الفاعل” السياسي ان يتحكم بملايين التفاصيل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية في مملكته الواسعة؟ وبلغة أكثر مباشرة وبمزيد من التركيز على الجانب الثقافي نسأل : ماهي طبيعة العلاقة بين السياسي والمثقف؟ ماهي العلاقة بين كوثر الأربش وبين رُعاتها السِياسيين؟ كيف استطاعت فتاة شِيعية لم تُكمل تعليمها الجَامعي بعد من تحقيق هذا الانتشار الواسِع والدخول الى معاقل المؤسسات الأدبية والصحافية الرسمية كعضو في مجلس إدارة جمعية الثقافة والفنون وكاتبة مقال ثابت في صحيفة رسمية لا يُكتب فيها حرف واحد الا بموافقة العملاق ورِضاه ومُباركته؟! بالإضافة للظهور الإعلامي المُتكرر على اكثر مِن فَضائية مصحوبة باهتمام وحفاوة بالغة لم تتوفر لمن هم أكثر موهِبة وقُدرة وحُضور في الوسَط الاجتماعي الشيعي؟!
أعتقد أن للأمر جانبان مُرتبطان ببعضهما ارتباطاً عُضوياً وثيقاً لا يُمكن فصله, جانب يتعلق بطبيعة الموضوعات التي تركز عليها السيدة أربش وهي مُهتمة كما تقول بنقد الموروث الشيعي خُصوصاً (كخُطوة أولى وضرورية على طريق التعايش بين الطوائف والمذاهب حسب تعبيرها), وجانب آخر يتعلق بشخصيتها ومَظهرها كفتاة شِيعية على قدر واضح من الجَمال والإثارة الممزوجة بتحرر وانطلاق غير معهوديْن في الأوساط النسوية الشيعية عموماً. ألا تبدو لكم السيدة أربش مثيرة بِكلا الجَانبين؟ ألا يبدو المَزيج مِثالياَ جِدا في نَظر “اللفياثان” الداهية ؟!
بالنظر للجانب الأول وهو نقد الموروث الشيعي وهذا الإصرار العَجيب على تحميله مسؤولية كل الكوارث المستقبلية المحتملة عبر انفجار التطرف النظري الموجود في قلب الكتب الشيعية على شكل عنف يهدد كل مقومات السلم والتعايش الأهلي المُتوافر سَلفاَ في مُجتمع لم تبق من مشاكله الا مُشكلة التراث الشيعي الذي يتمظهر في عينيها على هيئة قنابل موقوته قد تنفجر في أي لحظة!
حسناً ..هذا محضُ هراء, فالموروث المذهبي بشِقّيه السني والشيعي موجود منذ حوالي 800 سنة وأكثر, كان موجودا قبل الصحوة وقبل الخُميني وجهيمان والقاعدة وداعش وحزب الله والنصرة وبوكو حرام, ولم تكن الأحوال افضل حينها. فالموروث الديني يظل عموماً كإرث رُوحي وتاريخي وفِكري في حَياة الشعوب والمجتمعات ولا يتحول الى مادة للصراعات الا عندما تعبث به يد السياسي وطالب السُلطة.
من يعتقد ان أوروبا تنورت وتقدمت لأنها تخلصت من مورُوثها الديني او حتى هذبته فكرياً فهو واهم, لازالت اُوروبا بيضاء مسيحية في عُمقها وجوهرِها, لازال المَسيحي الأبيض يحملُ نزعة العنصرية العِرقية والدينية التي لازمته عبر موروثه القديم وحتى عصرهِ الحاضر. ما حققه التنوير الأوروبي لم يكن عبر نقد التراث الديني ومُحاولة التخلص منه بل عبر فلسفة السياسة والقانون, كان الإنجاز الأعظم للثورة الفرنسية هو كسر التحالف المصلحي بين الديني والسياسي, ما فعله الثوار هو أنهم كسروا يد السياسي التي تعبث بالموروث وتُحوله الى مادة صِراع ونِزاع واستبداد سياسي وطَبقي.
اذا عندما تعمد مُثقفة سعودية الى القول ان مشكلة الطائفية تتلخص في الموروث النائم في بطون الكتب دون أي إشارة لدور “الفاعل” السياسي الذي ينبش عمدا هذا الموروث ويهيجه ليتحول رصاصات وقنابل تخترق جسد السلم والمواطنة فهو اما أحمق جاهل او مُجرد مرتزق واُلعوبة بيد السياسي. عندما يتعمد المُثقف الطائفي تضليل الناس ولَيّ أعناقهم ليتحولوا بأنظارهم الى أعماق التاريخ المُمتد عَبر ثمانية قُرون من الزمن ويقول لهم ان المشكلة كامنة هناك وليست هنا!! المشكلة في موروثكم كأقلية طائفية تختزن العُنف والتعصب وليس في الاستبداد السياسي الذي يعبث بماضيكم وحاضركم ومستقبلكم, المشكلة فيكم و ليست في هذا الكائن المُتوحش المستعد لترككم لُقمة سائغة لطغيان التعصب والعَمى والاستبداد الطائفي الذي يرعاه ويحتضنه. عندها يمكنك أن تتيقن ان هناك تحالفاً واتفاق مصالح ورِعاية واحتضان بين المُثقف وبين السياسي.
وأما فيما يختص بالجانب الآخر, فإني لا أستطيع أن أمنع نفسي من تخيل العملاق السياسي وهو يفركُ يديه ويتمطّى بشفتيه تلذذاً لمشاهدة هذه الشيعية الجميلة ذات العينين الخضراوين وغُرة الشعر الذهبية التي تختفي وتظهر حسب الحاجة وبجُرعات مدروسة من التدرج وهي ترقص بِخفّة وإثارة على إيقاع الموروث حيث لا يملك الجميع الا الافتتان بهذا الجسد الراقص والانبهار بالعينين النّاعستين اللتان تُشيران دائماً باتجاه الماضي السحيق الذي تُصر على أنه مَكمن العُنف القَادم.

اللفياثان

اللفياثان

كوثر 3

في ذكرى أكتوبر …لماذا “لن” تقود المرأة سيارتها ؟

في الثالث والعشرين من شهر يونيو من العام 2013 صَدر قرار من الديوان المَلكي يقضي بتغيير الإجازة الأسبوعية في المملكة من يومي الخميس والجمعة الى يومي الجمعة والسبت, على أن يُنفذ القرار في يوم السبت الموافق للتاسع والعشرين من الشهر نفسه (أقل من أسبوع من تاريخ صُدور القرار)!
هكذا تتم الأمور بكل بساطة في المملكة, تتم صناعة القرار في أروقة السُلطة العليا والمكونة عادة من مجموعة صغيرة من رجال الحُكم النافذين ثم يُتخّذ القرار من قمّة الهَرم السياسي لينزل بعدها ويتمدد أفقيا باسطا سلطته المُطلقة على امتداد القاعدة الشعبية, وينتهي الأمر.

فبعد عٌقود طويلة من النقاش والأخذ والرّد في هذا الموضوع ومُمانعة آلية من التيار الديني المتشدد في المملكة مُحتمياً خلف القاعدة الأصولية الشهيرة التي تقضي بضرورة مُخالفة الكُفّار وحُرمة التشبّه بهم تم اتخاذ القرار وتنفيذه دون أن ينبس أحد منهم ببنت شفة! ومن واقع رصد سريع لردَات الفعل الباهتة على هذا القرار لم أجد سوى بضع اعتراضات هي في الحقيقة أقرب لنَزَق الطفل عندما تَعمد أمه لسحب جهاز الأيباد من يده وجرّه للسرير عندما يحين موعد نومه, لا يفوتني هنا ذكر اعتراض يمكن تصنيفه في خانة الكوميديا لأحد الأشخاص الذين يُسبقون أسماءهم دائما بحرف الدّال الشهير (وهو مختص في الإعلام بالمناسبة) يقول فيه أن القرار يُعد اعتداء على النّسق الثقافي للمجتمع !! لا أدري من قال له أن الأنساق الثقافية يُفترض بها ان تظل ثابتة وجامدة لا تتغير ولا تتبدل؟!

بعد هذا القرار وما تبعه من ردّات الفعل تفاءل الكثيرون وانتشوا وربما أعلنوا ان الحكومة ستتجه الأن لمقاربة المَلف الأكثر صُعوبة واثارة للجدل لحسمه والتخلص من صُداعه المستمر وستفعل معه كما فعلت بملف الاجازة الأسبوعية, بعد شهر من الآن وربما أقل سيصدر قرار ملكي بالسماح للمرأة بقيادة السيارة! لقد تحدثنا عن طريقة سير الأمور في المملكة أليس كذالك؟, لسنا بحاجة لعُقد الدّيمقراطيا وضجيج البرلمانات وغيرها من سَخافات العالم المُتمدن, قرار ملكي وينتهي الأمر.
مرّت الأسابيع والشهور ولم يحدث شيء !! ارتفع صوت الناشطات مُجددا, قرروا النزول للشارع واطلقوا حملة تويترية حددوا فيها موعدا تضامنيا يهدف إلى إعادة الملف لواجهة الاهتمام الإعلامي مُجدّدا وهو يوم السادس والعشرين من شهر أكتوبر من نفس العام, لم يفُك لغز هذا الاختيار سوى عبقري السلفية التويترية الأستاذ محمد الشنار عندما أعلن على الملأ ان هذا اليوم يُصادف يوم ميلاد وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون!
لكن المُفاجأة الكُبرى التي صدمت الجميع هو تخلي الحكومة عن حُجتها الأزلية التي استخدمتها دائماً لصد هذا القرار ومنع تطبيقه وهي حجة المُمانعة والرفض الاجتماعي حيث اعترفت ببيان صريح من وزارة الداخلية تقول فيه بكل وضوح انها هي من ترفض وتمانع وليس المجتمع!! وثارت الأسئلة من كل مكان, لماذا ؟؟ لماذا ترفض الحكومة السّماح للمرأة السعودية بقيادة سيارتها؟! ولماذا كذبت على الجميع طوال عقود من الزمن بالقول انها لم تمنع ولم تسنّ قانونا او تشريعا يمنع المرأة من قيادة السيارة؟! لماذا لا تزال تُصر على حمل هذا الملف الثقيل على رأسها كجرّة ماء تنزّ منها رطوبة مزعجة ومُتعفنة؟ ولماذا لا نزال نتناقش ونتجادل في قضية شديدة البداهة والوُضوح ونحن على أعتاب العام 2015 ؟!
هنا أجدني مُضطرا لاعتماد تحليل تاريخي وسياسي مُتقعر ومُتكلف ولا يتناسب أبدا مع بساطة القضية المطروحة وبداهتها.

أقول وعلى الله التوكل والاعتماد: لقد تأسّست المملكة قبل حوالي قرن من الزمان بمجهودات رجل يَقودُ مَجموعة رجال, مساحة شاسعة وصحراء ممتدة فتحها رجُل, ووحّدها رجُل, وحَكَمها رجل, وأدَارَها رجل, ومَلكَها رَجل, هذا الرجل تحالف مع رجال يُمثلون ديناً بنسخة ذكورية لا تعرف سوى الرجل! (هل انا مُضطر لتكرار المزيد من كلمة رجل ؟!).
نعم يا سيدات, فلا داعي للمُواربة هنا ولا اعتقد اني اُفاجِئكّن واعلن شئياً لا تعرفونه عندما أقول انكم تعيشون في مملكة الرجال, ولتجنب الاشتباه والخطأ ولحفظ الحُقوق دعونا نقول : مملكة الذكور!!
ليس الأمر بسيطاً وهيّناً, دعوني أشرح لو سمحتم, الذكورة هنا ليست جنساً وحسب, ليست رجلاً مقابل امرأة, ليست مُجرد بيولوجيا وتشريح وفروقات نفسية وعصبية, الذكورة هنا أداة سُلطة وحُكم, أداة قوة وقَهر وإخضاع, هي امتياز يتوسّل بالعُنف والغَلبة. هي ميراث يحمله الإنسان الذكر عبر امتداد التاريخ البشري ليقول للإنسان الأنثى: انا هنا الحاكِم والحَكم, أنا سيّد هذي الأرض ومَلِكها ولا مكان لك الا دوني بمليون سنة او تزيد هذا ان اعترفت بوجودك أصلاً!!
إذا, عندما تكون الذُكورة أداة حُكم وقوة وامتياز فلا تتوقع أبدا من الذكر ان يتنازل او يسمح للأنثى بالاقتراب منها و تهديد سِحرها وقوتها وسَطوة تأثيرها.

وبالعودة لملفنا الأثير وموقف الحُكومة مِنه فإني لا أجدُ الا هذا التّفسير المُنطلق من شهوة الحُكم الذُكوري المُتسيّد, إضافةً لأمر شديد الأهمية على المستوى السياسي كفعل يومي معنيّ بأمور الحُكم والإدارة والسّيطرة على مقاليد الأمور في بلد لم يجد بُداً من الانفتاح القسري على رياح التغيير المُحيطة به شرقاً وغرباً, دعوني أضَع المعنى الذي أريده بين ثنايا هذه العبارة : ليس هناك أسعد من حكومة لا تُضطر الا لقمع نِصف شعبها فقط, ثم يتولى هذا النصف المقموع مَهمّة قَمع النّصفِ الآخَر! انها هَرميّة السُلطة الذكورية في أقوى وأعنف تجلياتها : حاكم ذكر يقمع مواطناً ذكر ليصل الأمر للحلقة الأخيرة في تراتبية سلسلة القمع وهي الأنثى!!
مِن هذه الزّاوية قد تَتَحول مَسألة بَسيطة وبَديهية مِثل قِيادة المَرأة للسيّارة الى قَضية تَمكين وتحرّر قد تَتَسبّب باختلال مَنظومة القمع التسلسلية بأكملها.
انّه الخوف من التداعيات والآثار السّياسية لخروج الانثى وتَحررها قليلا عن سُلطة الذكر! مالذي سيحدث لو خرج هذا الجنّي النّاعم من قُمقمه؟! مالذي يُمكن للمرأة أن تفعله في المجتمع إن هي انطلقت وتحرّرت؟! هل ستثور؟ هل ستتمرد؟ هل نتخذ قراراً كارثياً بدحرجة كُرة الثلج الحُقوقية والسياسية لو سمحنا لها بقيادة السيارة؟! مالذي يُمكن أن يحدث بعدها؟
باعتقادي هذا هو السُؤال الذي يرفض ويخشى الحَاكم السعودي الذّكر (قامعاً ومقموعاً) مُواجهته, (لا بد وأنكم شعرتم بالكثير من المبالغة, حسناً أعطوني تفسيرا أفضل وأبسط).